سورة الأعراف - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}.
التفسير:
{المص}.
ذكرنا في أول سورة البقرة الأقوال التي قيلت في تأويل الحروف التي بدئت بها بعض سورة القرآن الكريم.. وقلنا رأينا الذي ارتضيناه فيها، وأنها من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا اللّه، والراسخون في العلم، الذين آتاهم اللّه من فضله علما وحكمة.
{كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ}.
قوله تعالى: {كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} خبر لمحذوف دل عليه النظم، وتقديره:
هذا الكتاب.. أي هذا الكتاب.. كتاب أنزل إليك.
ويجوز أن يكون كتاب مبتدأ، وخبره قوله تعالى: {أُنْزِلَ إِلَيْكَ}.
وفى تنكير الكتاب مبالغة في التعريف به، وبأنه بذاته مستغن عن كل تعريف، وهذا هو الرأى الذي نميل إليه.
وفى إسناد الفعل للمفعول {أنزل إليك} بدلا من أنزلناه، أو أنزله اللّه إليك- في هذا توافق بين المبتدأ والخبر، من حيث التنكير والتجهيل، اللذان هما- في تنكيرهما وتجهيلهما- أعرف وأظهر من كل معروف ومن كل ظاهر.
{كتاب أنزل إليك} أيها النبىّ، فلا تتلّبث في شأنه، ولا تقف لتقول:
ما هذا الكتاب؟ ومن أين جاء؟.. هو كتاب أنزل إليك وكفى! إنه واضح الدلالة، بيّن القصد.. في كل كلمة من كلماته، وفى كل آية من آياته، شاهد يشهد له، ويشير إلى متنزّله.. {فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين} أي إذا كان هذا الكتاب الذي أنزل إليك على ما ترى من هذا السلطان الذي له، ومن هذا الإعجاز الذي بين يديه، فلا يكن في صدرك ضيق، أو خشية من لقاء المشركين به، ودعوتهم إليه، وكشف ما يكشف من ضلالاتهم، وسفاهاتهم، ولو ساءهم ذلك في أنفسهم وفى آلهتهم.. فإنه الحقّ الذي تصدم به الباطل، وإنه النور الذي تجلى به غياهب الشرك والضلال.
فيا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك.. ولا يكن في صدرك حرج مما يسوء قومك من هذا الحق الذي تكشفه لهم.. لتنذر به المشركين منهم، وتذكّر به المؤمنين الذين اتبعوك.
ولقد كان النبىّ الكريم- صلوات اللّه وسلامه عليه- كريما مع قومه، محبا لهم، حريصا على أن يلقاهم- كما اعتادوا منه- بالمودة والإحسان.. فلما أكرمه اللّه بالرسالة، ليحرر قومه من ضلالاتهم، ويجلو العمى عن أبصارهم، بدأ يتلمس طريقه إليهم في رفق وحذر، حرصا على ألا تنقطع بينه وبينهم وشائج القربى، وصلات المودة.. ولكن سفهاء قومه لم يستقبلوه بالحسنى، بل علا صراخهم في وجهه، وتطاولت ألسنتهم بقول السوء فيه، ثم سعوا إليه بالأذى المادي، حتى لقد همّوا بقتله.. وهو- مع هذا- حريص على أن يمسك قومه على هذا الخير الذي بين يديه، وأن يفيض عليهم منه، ثم هو من جهة مطالب بأن يجهر بدعوته، وأن يملأ بها أسماع الدنيا، ولو تقطعت بينه وبين أهله الأسباب.
ومن أجل هذا كان صلوات اللّه وسلامه عليه واقعا في هذا الحرج، أول الأمر من دعوته، يريد أن يجعل من الزمن جزءا من العلاج، لحلّ هذه العقد التي بينه وبين قومه.. ولهذا كانت آيات اللّه تتنزل عليه كلما ألمت به حال من تلك الأحوال، التي تدعوه إلى أن يتلبث ويستأنى: فتجىء تلك الآيات لتقطع عليه هذا الشعور الذي يطرقه، ولتدفع به إلى ملاقاة المشركين لقاء مواجها متحديا:
{فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [94: الحجر].
{يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ} [67: المائدة].
وقد صدع النبىّ بأمر ربه، وواجه قومه مواجهة صريحة بكل ما أوحى إليه من ربه، غير ملتفت إلى ما يصيبه من ضر وأذى، وغير عابىء بما ينكشف عنه الحال بينه وبين أهله، ولو كانت الحرب وكان القتال، والقتل.. وقد كانت الحرب، وكان القتال والقتل! ومع هذا فقد ظلّ النبىّ الكريم- فيما يتصل بخاصة نفسه- على ما عوّد قومه، وما اعتاد الناس منه.. لا يمس شعور أحد من أصحابه، ولا يجرح حياء أحد من معاشريه ومخالطيه، إلا أن يجار على حق من حقوق اللّه، أو تنتهك حرمة من حرماته، فإن حق اللّه فوق كل شىء، وحرمته فوق كل حرمة.
كان بيت الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- مجمع صحابته وملتقى المسلمين من كل أفق.. يجلسون إليه فيطيلون الجلوس، في ظل هذا النور الهادي، وفى محضر هذا الخير العميم، ويطرقون بيته في أيّة ساعة من ساعات الليل أو النهار.. يستخبرون ويخبرون، ويقولون ويقال لهم، غير مقدّرين حاجة الرسول- كإنسان- إلى أن يسكن إلى بيت، أو يفىء إلى راحة.. وكان من هذا أن تولىّ اللّه سبحانه وتعالى التخفيف عن النبىّ من هذا الحمل الذي ينوء به، ولا يجد من نفسه القدرة على أن يواجه أحدا بكلمة تردّه عن بيته، أو تنزعه من مجلسه.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [53: الأحزاب].
ويقول سبحانه فيما أدب به المؤمنين في حديثهم مع الرسول: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}.
لقد قالتها السماء، ولم يقلها الرسول الكريم.. هكذا كان الرسول مع الناس- في خاصة نفسه- يحتمل الجهل والسفه من الجاهلين والسفهاء.. وعلى هذا يفهم الحديث الشريف: «إنا لنهشّ في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم» ففى هذا الأدب النبوي دعوة إلى مداراة الناس، وعدم مجابهتهم بما نكره منهم، فإن في هذا تأليفا بين القلوب وتواصلا بين الناس، ولو أننا لقينا الناس أو لقينا الناس بما نكره منهم وما يكرهون منّا لما التقى إنسان بإنسان إلا على عداوة وبغضاء، ثم مشاحنة وخصام.
وفرق بين هذا الموقف وموقف الملق والريا، الذي يتخذ منه صاحبه وسيلة للخداع والتمويه، بتزييف الحقائق، وطمس معالم الأمور.. أما هذا الموقف فلا يعدو أن يكون صورة كريمة من صور دفع السيئة بالحسنة، مع ما يصحب ذلك من كظم الغيظ، ودفن الألم.. وأما اللعنة التي يشير إليها الرسول الكريم في قوله: «وقلوبنا تلعنهم» فهى كناية عن هذا الغيظ المكظوم، أو هذا الألم الدفين، الذي يحبسه لإنسان في نفسه، ويحملها عليه من غير أن يظهر شيء من ذلك على وجهه أو لسانه.. كما يقول سبحانه: {وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ}.


{اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)}.
التفسير:
بعد أن بيّن اللّه سبحانه وتعالى لنبيّه الكريم الموقف الذي ينبغى عليه أن يقفه من الناس في تبليغ دعوته، وأنه موقف لا حساب فيه لمشاعر القربى، ولا مدخل فيه لما يسوء المكابرين والمعاندين منه- بعد هذا جاء أمر اللّه سبحانه إلى الناس أن يتبعوا هذا الذي أنزل إليهم من ربّهم، والذي يعرضه الرسول عليهم، ويبلغهم إياه: {اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} فما يبلّغه الرسول إليهم ليس من عند هذا الرسول، وإنما هو من كلام رب العالمين.
فها هو ذا لرسول يدعوهم إلى اللّه بكلمات اللّه، وها هو ذا الشيطان يدعوهم إلى الغواية والضلال، بالزور من القول، والزّيف من الأمانى.. {اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ}.
.. فهما دعوتان.. دعوة إلى حق وهدى، ودعوة إلى باطل وضلال.. وقليل من الناس أولئك الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وكثير أولئك الذين لا يسمعون، ولا يعقلون.
{قليلا ما تذكرون} إذ استولى الفساد على الناس، وصرفهم عن الحق، إلا قليلا ممن هدى اللّه.
وهذه الثلاث وتلك النذر قائمة بين الناس، تريهم منها ما حلّ بالظالمين من بلاء، وما وقع بهم من سوء.. {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ..} فما أكثر الأقوام الذين أخذهم اللّه بظلمهم، وما أكثر القرى العامرة التي دمّرها اللّه ودمدم على أهلها، فأصبحوا ترابا في ترابها!.
والبأس، هو البلاء المسلط من قوة قادرة لا تدفع.
وفى هذه الآية ما يسأل عنه، وهو:
كيف قدّم الإهلاك على مجىء البأس: {أهلكناها فجاءها بأسنا} مع أن البأس هو عامل الإهلاك وأداته؟.
والجواب، أن الإهلاك حكم واقع مقرر قبل مجىء البأس، وأن هذه القرى الظالمة كانت تحت حكم لإهلاك قبل أن تهلك بزمن طويل، لما كان عليه أهلها من ضلال، وعناد، وإفساد في الأرض وأن اللّه سبحانه وتعالى أمهلهم، وبعث فيهم الرسل، مبشرين ومنذين، فلم يلتفتوا إلى هدى اللّه، ولم يقبلوا على دعوته، بل صدّوا عنه، وازدادوا كفرا إلى كفر وضلالا إلى ضلال.. حتى إذا بلغ الكتاب أجله، جاءهم بأس اللّه، فأخذهم العذاب وهم ظالمون.
وفى قوله تعالى: {فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ} إشارة إلى أن هذا البلاء قد وقع على تلك القرى الظالمة حين كانت في غفلة من أمرها، لا تتوقع شرّا، حيث لفّها الليل في سكونه، واشتمل عليها النعاس بسلطانه، أو حيث هجعت في قيلولة، وفاءت إلى ظلّ ظليل.. فالضربة هنا ضربة مفاجئة لا تدع لأحد سبيلا إلى استجماع نفسه، أو لمّ شمله، أو إلقاء نظرة إلى ماله وأهله وولده.
{وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}.
وقوله تعالى: {فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ} إشارة إلى أن الكلمة التي استقبل بها القوم هذا البلاء، لم تكن إلا إدانة لأنفسهم، وحجة يقيمها بعضهم على بعض، بأن ما حلّ بهم لم يكن إلا بما ساقهم إليه سفهاؤهم من كفر باللّه، وصدّ عن سبيله.
والدعوى هنا بمعنى الدّعاء، الذي يدعو به بعضهم بعضا.. فيقول كل منهم: هذه فعلة فلان وفلان بنا!! وإذا كانت دعوى أهل السلامة والعافية في الجنة هى الحمد للّه رب العالمين، كما يقول اللّه تعالى: {وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} فإن دعوى أهل العطب والضياع.. {يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ}.
ولكن هيهات.. فلن يقبل منهم عذر، ولا يسمع لهم قول:
{فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ}.
قوله تعالى: {فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ}.
فها هو ذا يوم القيامة، وها هم أولاء الناس جميعا في موقف الحساب والجزاء.. يسألون: ما ذا كان منهم في دنياهم التي خلفوها وراءهم؟ وما ذا كان موقفم من رسل اللّه؟.. وهاهم أولاء رسل اللّه يسألون: {ما ذا أجبتم؟} وما ذا لقيتم من أقوامكم؟ ومن الذي آمن بكم وآزركم ومن صدّ عنكم وتصدّى لكم؟.. وتخشع الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا، وتنشر صحف العباد، ويرى كل إنسان ما عمل من خير أو شرّ، {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ} فما سئل الناس، وما استشهد الرسل عليهم ليقولوا شيئا غاب عن اللّه سبحانه وتعالى أمره، ولكن ليستحضرواهم وجودهم كله، حتى يشهدوا هذا الذي كان كثير منهم في شك منه، من قدرة اللّه، وسعة علمه الذي لا تخفى عليه خافية.. {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا..}.
قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ}.
فى هذا إشارة إلى أن أعمال الناس التي عرضت عليهم، لم تكن لمجرد عرضها، والعلم بها، وإنما لتكون موضع حساب ومناقشة، فتوزن أعمال كل إنسان بميزان الحق والعدل.. فمن ثقلت موازينه، ورجحت حسناته على سيئاته، فقد نجا وأفلح، وكان من الفائزين برضوان اللّه وجنات النعيم، ومن خفت موازينه فرجحت سيئاته على حسناته، فقد خاب وخسر، وكان العذاب جزاءه والنار مثواه.. والباءان في قوله تعالى: {بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ}: الأولى للسببية، والثانية للاستصحاب، بمعنى أنهم خسروا أنفسهم بسبب كونهم كانوا ظالمين مع استصحاب آياتنا، ووجودها بين أيديهم، وفى مواجهة حواسّهم ومدركاتهم لها.
والآيات هنا، هى آيات اللّه المنزلة على أنبيائه، والآيات الكونية التي تبدو في كل ما أبدع الخالق وصوّر.


{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)}.
التفسير:
بعد أن عرض اللّه سبحانه وتعالى الناس على مشاهد القيامة، وما سيكون لهم فيها من مواقف، بين سعداء وأشقياء- بعد هذا العرض استقبلهم سبحانه- بتلك الآيات الكريمة التي تذكرهم بما كانوا في غفلة عنه من أمرهم، وماللّه من فضل عليهم، فيما مكن لهم من أسباب الحياة في هذه الأرض، وفيما كان قبل ذلك من إيجادهم من عدم، وخلقهم على تلك الصورة الكريمة، التي صار بها الإنسان أهلا ليكون خليفة اللّه في الأرض.
وهذا من شأنه أن يلفت الإنسان إلى هذه النعم، وإلى أداء حق المنعم بها، وذلك بحمده، والولاء له، وخاصة بعد هذه المشاهد المثيرة التي طلعت على الناس من مشاهد يوم الحساب.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ} هو عرض لبعض تلك النعم التي أنعم اللّه بها على الناس، فقد مكن لهم سبحانه وتعالى في الأرض، وجعل لهم سلطانا على كائناتها، من حيوان ونبات وجماد، بما منحهم من عقل، يفكر، ويقدّر، ويسخر قوى الحيوان والطبيعة لخدمتهم، ولتوفير أسباب الحياة الطيبة لهم.. ولكن أكثر الناس لا يشكرون للّه فضله، ولا يقدرونه حق قدره، بل إن كثيرا منهم ليحارب اللّه بهذه النعم، ويتخذ من دونه شركاء، يتعبّد لهم، ويجعل ولاءه إليهم، دون خالقه، ورازقه، ومالك الملك كله.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}.
هو بيان لخلق الإنسان وتقلّبه في أطوار الخلق.. ومن أين جاء؟ وكيف نشأ؟ وإلى أين يصير؟
كان الخلق أولا، ثم التصوير ثانيا.
والخلق عملية ذات مراحل طويلة، تنقل فيها الإنسان من طور إلى طور، ومن خلق إلى خلق، حتى دخل طور الإنسان الذي فيه كان التصوير على تلك الصورة الإنسانية الكاملة.
وفى العطف بثمّ بين الخلق والتصوير، ما يشير إلى هذا الفاصل الزمنيّ الطويل، الذي قد يبلغ ملايين السنين، بين بدء بذرة الخلق للكائن الحي، وبين الثمرة التي أعطتها شجرة الحياة.. في صورة هذا الإنسان..!
ثم إن هذا الإنسان حين أطل برأسه إلى هذا العالم، لم يكن إلا إشارة باهتة إلى هذا الإنسان العاقل المدرك، الذي يحمل أمانة التكاليف، ويناط به عبء خلافة اللّه على هذه الأرض.
ولهذا جاء العطف بثم في قوله تعالى: {ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ}.
فهذا الآدم الذي أمر اللّه سبحانه الملائكة أن يسجدوا له، هو الإنسان العاقل الرشيد، لا الإنسان في طفولة الإنسانية التي لم تنسلخ من جلد الحيوان بعد.
وهذا ما يؤيد الرأى الذي ذهبنا إليه من قبل في خلق آدم وتطوره.
وفى قوله تعالى: {ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} موضع لسؤال.
هو: كيف يكون الإنكار على إبليس بترك السجود، بهذا الاستفهام عن السبب الذي منعه من عدم السجود.. وهو على خلاف المراد من الاستفهام الذي يطلب إليه فيه أن يجيب عن سبب المنع عن السجود، لا عن سبب المنع من عدم السجود.. كيف يكون هذا؟
يجيب المفسّرون على هذا بأجوبة كثيرة.. منها القول بأن لا النافية زائدة.. وهو أرجح الآراء عندهم..!
والقول بزيادة اللام لا معقول له إلا- عند القائلين به- أنه يسوّى النظم القرآنى، ويمنع اضطراب المعنى، أو فساده! ولا يشفع لهذا القول ما جاءوا به من شواهد من الشعر العربي بزيادة حرف النفي لا.
فالقرآن حجة على الشعر، وليس الشعر حجة على القرآن.
ثم إن القرآن ليس شعرا حتى تباح فيه الضرورات التي تباح في الشعر.
ثم إن القرآن ليس من قول بشر حتى تحكمه الضرورة، وتلتمس لقائله المعاذير.
ولكنه كلام ربّ العالمين.. {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}.
وإذن فحرف النفي لا حرف أصيل، هو من صميم النظم القرآنى في الآية الكريمة، له مكانه من الإعجاز الذي تحمله الآية الكريمة، ولو حذف لحذف معه بعض ما في الآية من إعجاز.
هذا ما يجب أن يتقرر ويتأكد أولا، قبل أن نجد لهذا الحرف لا مفهوما.
إذ لا بد من أن يكون له مفهومه في الآية الكريمة، حيث هو، وكما هو، سواء اهتدينا إليه أو لم تهتد، فإنه لا بد أن يهتدى إليه الباحثون، بالكثير أو القليل من البحث والنظر.. أما القول بزيادة حرف أو كلمة في القرآن الكريم، فهو- على أقل تقدير- هروب من مواجهة كلمات اللّه وآياته.
وننظر، فنجد:
أولا: أن لا إذ قيل بزيادتها كان المعنى حسب منطوق النظم بعد الحذف، هكذا: {ما منعك أن تسجد}؟
وهذا يعنى أن مع إبليس حجة على منعه من السجود! ولقد أجاب إبليس على هذا، وقدّم الحجة التي معه، فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}.
ولكن.. أية حجة لمخلوق أمام الخالق؟
لقد أمره اللّه سبحانه وتعالى بالسجود.. وكان عليه أن يمتثل لهذا الأمر وأن يسجد كما سجد الملائكة كلهم أجمعون.
أما التردد في الامتثال لهذا الأمر، أو النكوص عنه، فهو عصيان صريح للّه، وتحدّ وقاح لأمره، لا تقوم لصاحبه حجة، ولا يقبل منه قول.
وثانيا: إذا بقيت لا بمكانها من النظم- وهى باقية أبد الدهر- مؤدية وظيفة النفي- وهى مؤدية له إلى ما شاء اللّه- فإن المعنى حينئذ يكون هكذا حسب منطوق النظم: ما منعك من ألا تسجد إذ أمرتك؟ أي ما حملك على ألا تسجد؟ وبهذا يكون النظر إلى كلمة المنع لا إلى الحرف لا.
وهل هو منع قائم على حواجز وحوائل، تمنع من امتثال الأمر، وتحول بين المأمور وبين إتيان ما أمر به، أم أنه منع قائم على أوهام وضلالات، ومستند على محامل وعلل من الوهم والضلال؟
والجواب، أنه ليس هناك منع على الحقيقة، وإنما هى علل فاسدة، ومحامل باطلة، اتخذ منها هذا الشقىّ ذريعة يتذرع بها إلى عصيان ربّه، وعذرا يعتذر به إليه.
ولهذا كان النفي للمنع مطلوبا هنا، حيث لا سبب للمنع على الحقيقة.
ثالثا: في مساءلة اللّه سبحانه وتعالى لإبليس، في غير هذا الوضع، جاء قوله تعالى: {قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [32: الحجر] فقوله تعالى: {ما لَكَ} هو بمعنى {ما منعك}؟ حيث لا منع، وإنما هو- كما قلنا- ضلالات وأوهام من قبل إبليس، لا وزن لها، ولا معتبر في ميزان الحق.
هذا، وقد جاء في موقف آخر قوله تعالى: {قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ} [75: ص]- جاء من غير حرف النفي لا ولكن جاء بعده، ما يكشف عن تعلّات إبليس وأوهامه المندسّة في صدره، فقال تعالى: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ}؟ فهو الاستكبار والتعالي، وتلك موانع اصطنعها إبليس، وأقامها من ضلاله وجهله.
رابعا: في النظم القرآنى جاءت مساءلة إبليس في ثلاث مواضع.
هكذا.
1- {ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [11: الأعراف].
2- {يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ} [75: ص].
3- {يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} [3: الحجر].
وهذه المواضع الثلاث، لم يكن تكرارها لمجرد التكرار، وإنما لتعطى الصورة الكاملة لموقف الاتهام الذي وقفه إبليس بين يدى اللّه.. وأنه تلقى هذه الأسئلة جميعا في تبلّد ووجوم، وكان جوابه عليها في وقاحة فاجرة.. هكذا:
{ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}: {لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}.
{ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك}: {أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين}.
{ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدىّ أستكبرت أم كنت من العالين}: {أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين}.
وتتردد هذه الإجابات في صدر إبليس، وتضطرب على لسانه، وإذا هى كما انتزعها اللّه سبحانه وتعالى من صدره، وضبطها على لسانه.
وقد تكررت إجابته: {أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين} إذ كان هذا الاختلاف فيما بين النار والطين، هو الذي أضلّ إبليس وأغواه، حين قدّر أن النار خير من الطين.. وأن الأعلى لا يسجد للأدنى.
من هذا نستطيع أن نخلص إلى القول بأن قوله تعالى: {ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} هو بمعنى قوله تعالى: {ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}.
وأن فعل المنع هنا بمعنى الدافع الذي دفع إلى ترك الفعل المأمور به، والتقدير: ما حملك أو ما دفعك على أن يكون منك هذا الموقف الفاجر الذي وقفته، وهو أنك لم تكن من الساجدين..؟
وأما قوله تعالى: {ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فهو مطالبة لإبليس ببيان المانع الذي منعه، إن كان هناك مانع.. فلما لم يجد المانع طولب بأن يبيّن الدافع الذي تولّد في نفسه وحمله على ألا يسجد.. ثم لما اضطرب وتلجلج في الكشف عن هذا الذي ضلّ عنه وهو يحاول الإمساك به، قيل له: مالك- إذن- ألّا تكون مع الساجدين؟.
وهكذا يؤخذ بمخانقه، ويسقط في يده، فينهار ويهوى، ثم يتخبط في هذا الهذيان المحموم، وقد عرف ألا نجاة له، وأنه من الهالكين..!
قوله تعالى: {قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}.
الضمير في منها يعود إلى المنزلة التي كان فيها إبليس قبل هذه المعصية، وكذلك الضمير في قوله تعالى: {فِيها}.
والهبوط هنا هبوط معنوى.
والمعنى: اخرج أيها الشيطان المريد من هذه النعمة التي خولتك إياها، ورفعت بها منزلتك حتى اتخذت منها حجة على هذا العصيان الوقاح لأمرى، فتأبى أن تسجد لمن دعوتك إلى السجود له.. فما يكون لك أن تتكبر في هذه النعمة، وتختال بها.. وها أنت ذا قد أصبحت من الصاغرين، قد نزع عنك ما كنت تدّعيه لنفسك من منزلة تعاليت بها على هذا المخلوق الآدمي، الذي خلق من طين..!
وهكذا كل من ألبسه اللّه نعمة من نعمه فلم يرعها، ولم يؤدّ حق شكرها للّه، من الطاعة والولاء- إنها تنزع منه، ويلبس بدلها ثوب النقمة والبلاء.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ} [53: الأنفال].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8